فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} يعنون بالوعد المنذر به استهزاء، كقوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] وقوله: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 104، 105].
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} وهو ما نزل قبلَ القرآن من كتبه تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي: يتجاذبون أطراف المحادثة، ويتراجعونها بينهم، ثم أبدل من: {يَرْجِعُ} قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الأتباع: {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم قادتهم وسادتهم: {لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة، والبراهين، والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: مكركم فيهما وإغراؤكم وتمنيتكم لنا: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} أي: نظراء وآلهة معه {وَأَسَرُّوا} أي: الجميع من السادة والأتباع: {النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بأعمالهم كلٌّ بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي: زعمًا أنه أكرمهم عند الله بذلك في الدنيا، فلا يعذبهم في الآخرة علة تقدير وقوعها، وتوهمًا بأنهم لو لم يكْرُموا على الله لما رزقهم، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرَمهم. وقد أبطل الله تعالى حسبانهم ذلك بقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} أي: يضيق عليه حسب ما اقتضته حكمته ومشيئته في عباده، ومن يحب ومن لا يحب، وهو أعلم بمقتضياته وشئونه، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعذاب، اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، ولذا قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك. فيزعمون أن مدار البسط الكرامة، والتضييق الهوان. ويجهلون أن مناط الفوز والقرب منه تعالى، إنما هو الكمالات النفسية، وذلك بصدق الإيمان وحسن الاتباع. كما قال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} أي: بالمزية التي تقربكم قربة. ف: {زُلْفَى} محلها النصب: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ} أي: الثواب المضاعف: {بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} أي: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن نظائر الآية قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55- 56]، وقوله سبحانه: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} أي: بالصد عنها والطعن فيها: {مُعَاجِزِينَ} أي: قاصدين المعاجزة والمغالبة والقهر: {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي: في عذاب جهنم محضرون يوم القيامة.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: يعوضه، فإن ينابيع خزائنه لا تنضب، وسحائب أرزاقه سحّاء الليل والنهار: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي: أعلاهم؛ لأنه خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق، روى أبو يعلى عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض؛ يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق». ثم تلا هذه الآية: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وقال مجاهد: لا يتأولنّ أحدكم هذه الآية: {مَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} قال الزمخشري: هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، واردٌ على المثل السائر: إياك أعني واسمعي يا جارة. ونحوه قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزّهين براء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير. والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم، وهوانهم ألزم، ويكون اقتصاص ذلك لطفًا لمن سمعه، وزجرًا لمن اقتص عليه. انتهى.
وتخصيص الملائكة، لأنهم أشرف الأنداد عند مشركي العرب، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله، لزعمهم أن الأوثان على صور الهياكل العلوية المقربة، فتكون شفعاء لهم. وقوله تعالى: {أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} أي: أبإذنكم كان ذلك. كما قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17]. وكما يقول تعالى لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116]، وهكذا تقول الملائكة: {سُبْحَانَكَ} أي: تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله: {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم} أي: أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فنبرء إليك منهم. بينوا بإثبات موالاة الله، ومعاداة الكفار، براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم. وقولهم: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: الشياطين، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم. والضمير الأول في قولهم: {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} للإنس أو للمشركين، والأكثر بمعنى الكل، والثاني للجن.
{فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا} أي: لأن الأمر كله فيه لله؛ لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده. قال أبو السعود: وهذا من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزّه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة، يخاطبون بذلك على رءوس الأشهاد، إظهارًا لعجزهم، وقصورهم عند عَبَدتهم، وتنصيصًا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُون} ثم بين جملة أخرى من كفرانهم بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا} يعنون رسول الله صلّى الله عليه وسلم: {إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا} أي: القرآن الكريم: {إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}.
{وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} أي: ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيًا قبل محمد صلّى الله عليه وسلم، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، فلما مَنّ الله عليهم بذلك كذّبوه، وجحدوه، وعاندوه. ثم هددهم سبحانه بقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: من الأمم المتقدمة والقرون الخالية كما كذبوا: {وَمَا بَلَغُوا} أي: هؤلاء: {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} يعني أولئك، من المال، وبسطة الملك، والعمران، والمدينة: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: عقابي، ونكالي، وانتقامي.
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ} أي: بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق، وقد فسرها بقوله: {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} أي: قياما خالصًا لله بلا محاباة، ولا مراءاة، اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي: في أمره صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى، والإصلاح، وتهذيب الأخلق، ورفع النفس عن عبادة ما هو أحط منها من الأوثان، إلى عبادة فاطر الأرض والسماوات، واتباع الأحسن، ونبذ التقاليد، وإنزال الرؤساء إلى مصاف المرءوسين رغبة في الإخاء والمساواة، إلى غير ذلك من محاسن الإسلام، وخصائصه المعروفة في الكتب المؤلفة في ذلك. وقوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} أي: جنون. مستأنف منبه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كافٍ في ترجح صدقه، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير، وخطب عظيم من غير تحقيق وثوق ببرهان. فيفتضح على رءوس الأشهاد، ويلقي نفسه إلى الهلاك، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة؟ وجوز كون الجملة معلقًا عنها؛ لقول ابن مالك: إن تفكر يعلّق حملًا على أفعال القلوب، والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلم ب: صاحبهم؛ للإيماء أن حاله معروف مشهور بينهم، لأنه نشأ بين أظهرهم معروفًا بقوة العقل، ورزانة الحلم وسداد القول والفعل {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} وهو عذاب الآخرة والمآل.
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: أي: شيء سألتكم من أجر على الرسالة فهو لكم. والمراد نفي السؤال رأسًا، وإمحاض النصح كناية، لأن ما يسأله السائل، يكون له، فجعله للمسئول عنه؛ كناية عن أنه لا يسأل أصلًا. وما على هذا شرطية. وجوز كونها موصولة مراد بها ما سألهم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57]. وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى، وقرباه عليه السلام قرباهم. وجوز أيضًا كونها نافية. وقوله: {فَهُوَ لَكُمْ} جواب شرط مقدر؛ أي: فإذا لم أسألكم فهو لكم: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي: يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه، أو يرمي به في أقطار الآفاق، فيكون وعدًا بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاء الْحَقُّ} أي: ظهر، وهو الإسلام ومحاسنه: {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره، مأخوذ من هلاك الحيّ، فإنه ما دام موجودًا، إما أن يبدئ فعلًا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. ثم شاع في كل ما ذهب، وإن لم يبق له أثر، وإن يكن ذا روح. وجوز كون ما استفهامية منتصبة بما بعده؛ أي: أي: شيء يقدر عليه.
تنبيه:
في الإكليل: في الآية استحباب هذا القول عند إزالة المنكر.
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ} أي: عن الطريق الحق: {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي: لأن وبال ذلك عائد عليها، أو على ذاتي، لا على غيري: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} أي: من الرشاد والحق المبين: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} فإن قيل: مقتضى المقابلة مع الجملة قبلها، أن يقال: وإن اهتديت فإنما أهتدي لها. فلم عدل عنها إلى ما ذكر؟ قيل: إن المقابلة تكون باللفظ وتكون بالمعنى. وما هنا من الثاني، بيانه أن النفس كل ما عليها فهو بها، أي: كل ما هو وبال عليها، وضار لها، فهو بسببها، ومنها؛ لأنها الأمارة بالسوء، وكل ما هو لها مما ينفعها، فبهداية ربها وتوفيقه إياها.
وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بسند ذلك إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل في عمومه، مع علوّ محله وسداد طريقته، كان غيره أولى به. أشار لهذا، الفاضل ابن الأثير في المثل السائر.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} أي: هؤلاء المكذبون عند الموت أو البعث أو ظهور الحق وسلطانه، ودخولهم تحت أسره: {فَلَا فَوْتَ} أي: لهم، بهرب أو التجاء؛ إذ لا وزر لهم ولا ملجأ: {وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي: من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو ظفر بهم بسهولة بعد تعذره.
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} أي: بمحمد صلّى الله عليه وسلم، أو القرآن: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي: ومن أين لهم تناول الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم، لأنهم صاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء، لا دار الابتلاء، أو: لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يدخل الإيمان قلوبهم، أي: على تفسير: {إِذْ فَزِعُواْ} بظهور الحق عليهم في حياتهم، منه. قال الزمخشري: التناوش والتناول، أخوان، إلا أن التناوش، تناول سهلٍ لشيءٍ قريب، يقال: ناشه ينوشه، وتناوشه القوم. ويقال تناوشوا في الحرب. ناش بعضهم بعضًا. وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من قبس ذراع، تناولًا سهلًا لا تعب فيه. انتهى. أي: ففيه استعارة تمثيلية؛ شبه إيمانهم حيث لا يقبل، بمن كان عنده شيء يمكن أخذه، فلما بعد عنه فرسخًا، مد يده لتناوله. وقوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ} حال، أو معطوف، أو مستأنف. والأول أقرب {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي: يرجمون بالظن فيتكلمون بما لم ينشأ عن تحقيق من أقوالهم الباطلة؛ كقولهم: ساحر، وشاعر، ومجنون، وما نحن بمبعوثين، ونحو ذلك. فكله مقذوف من جهة بعيدة، لا قرب لمصداقها بوجه ما.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} أي: من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النار، أو من أن يدال لهم الأمر؛ لأنه جاء نصر الله والفتح: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} أي: بأشباههم من كفرة الأمم: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} من أرابه، أوقعه في ريبة وتهمة. فالهمزة للتعدية. أو من: أراب الرجل، أي: صار ذا ريبة، وهو مجاز، إما بتشبيه الشك بإنسان، على أنه استعارة مكنية وتخييلية، أو على أنه إسناد مجازي، أسند فيه ما لصاحب الشك، للشك، للمبالغة. أفاده الشهاب.
تنبيه:
في الإكليل قال ابن الفرس: احتج بهذه الآية بعض المفسرين، على أن الشاك كافر. وردّ بها على من زعم أنه ليس بكافر، وأن الله لا يعذب على الشك. انتهى.
وعن قتادة: إياكم والشك والريبة؛ فإن من مات على شك بعث عليه، ومن مات على يقين بعث عليه.
أحيانا الله وبعثنا على اليقين؛ إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا}.
يحوي هذا الشوط صورًا من الشكر والبطر؛ وصورًا من تسخير الله لمن يشاء من عباده قوى وخلقًا لا تسخر عادة للبشر. ولكن قدرة الله ومشيئته لا يقيدهما مألوف البشر. وتتكشف من خلال هذه الصور وتلك حقائق عن الشياطين الذين كان يعبدهم بعض المشركين، أو يطلبون عندهم علم الغيب وهم عن الغيب محجوبون. وعن أسباب الغواية التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان، وما له عليه من سلطان إلا ما يعطيه من نفسه باختياره. وعن تدبير الله في كشف ما هو مكنون من عمل الناس وبروزه في صورة واقعة لينالوا عليه الجزاء في الآخرة. وبذكر الآخرة ينتهي هذا الشوط كما انتهى الشوط الأول في السور.
{ولقد آتينا داود منا فضلًا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحًا إني بما تعملون بصير}.
وداود عبد منيب، كالذي ختم بذكره الشوط الأول: {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة؛ ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل. ثم يبين هذا الفضل:
{يا جبال أوبي معه والطير}.
وتذكر الروايات أن داود عليه السلام أوتي صوتًا جميلًا خارقًا في الجمال؛ كان يرتل به مزاميره، وهي تسابيح دينية، ورد منها في كتاب العهد القديم ما الله أعلم بصحته. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته. ثم قال صلى الله عليه وسلم «لقد أوتي هذا مزمارًا من زمامير آل داود».